المطلب الأول: نفي الغفلة عن الله تعالى
خَتَمَ الله تبارك وتعالى آياتٍ من كتابه المبارك، بنفي الغفلة عنه جلَّ وعلا.
من ذلك قوله سبحانه: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة/74]
وقوله: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة/85]
وقوله: { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة/140].
وقوله: { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [البقرة/144]
وقوله أيضاً: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة/149].
وقوله جلَّ وعلا: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [آل عمران/99] .
وقوله: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [الأنعام/132] .
قوله: { وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [هود/123] .
وقوله تعالى :
وقوله: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [النمل/93]
وهذا النَّفي للغفلة عن الله تعالى يستلزم إثبات كمال ضدِّ الصفة المنفية عنه سبحانه وتعالى ؛ فتكون دالة على كمال علمه، وسعة اطلاعه، وسرعة حسابه وعقابه، وبذلك تكون الصِّفة المثبتة بالضدِّ صفة مدحٍ وكمالٍ له جلَّ وعلا،وهذا مقرر عند علماء الاعتقاد من أهل السنة والجماعة؛كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وينبغي أن يُعلم
أنَّ النَّفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتاً، وإلا فمجرد النَّفي ليس فيه مدح ولا كمال؛ لأنَّ النَّفي المَحْض عدمٌ مَحْض؛ والعدم المَحْض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء؛ فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً[15]. ولأنَّ النَّفي المَحْض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.
فلهذا كان عامَّة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدح؛ كقوله: { اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة/255] فنفي السِّنة والنَّوم: يتضمن كمال الحياة والقيام؛ فهو مبين لكمال أنَّه الحي القيوم، وكذلك قوله: { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي لا يُكْرِثُه ولا يُثْقِله وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها"[16]. وكذا الغفلة كما أسلفت آنفاً فإنَّ نفيها عن الله تعالى يستلزم إثبات كمال ضدها.
ومن الآيات التي نفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه الغفلة قوله سبحانه:
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } [إبراهيم/42]
وفي معنى الآية قوله تعالى: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا } [المزمل/11] [17]. قال الزَّمَخْشَري: "فإن قلتَ يتعالى عن الله السَّهو والغفلة، فكيف يحسبه رسول الله r وهو أعلم الناس به غافلاً حتى قيل ولا تحسبن الله غافلاً؟ قلت: إن كان خطاباً لرسول الله r ففيه وجهان:
أحدهما: التثبيت على ما كان عليه من أنَّه لا يحسب الله غافلاً، كقوله:
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ } [الأنعام/14] { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [الشعراء/213] كما جاء في الأمر { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ } [النساء/136].
الثاني: أنَّ المراد بالنَّهي عن حسبانه غافلاً، الإيذان بأنَّه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنَّه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد كقوله: { وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [البقرة/283] يريد الوعيد.